فمن جعلها في الحاشية فهو الظاهر المختار لكونها ليست من كلام مسلم ولا من كتابه فلا يدخل في نفسه إنما هي فائدة فشأنها أن تكتب في الحاشية ومن أدخلها من الكتاب فلكون الكتاب منقولا عن عبد الغافر الفارسي عن شيخه الجلودي وهذه الزيادة من كلام الشيخ الجلودي فنقلها عبد الغافر في نفس الكتاب لكونها من جملة المأخوذ عن الجلودي ، مع أنه ليس فيه لبس ولا إيهام أنها من أصل ، والله أعلم. [ ص: 362] قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت) معنى ( شرح) شق كما قال في الرواية التي بعد هذه. المراد برسول ربي في الحديث هو - منبع العلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( ثم أنزلت) هو بإسكان اللام وضم التاء هكذا ضبطناه وكذا هو في جميع الأصول والنسخ وكذا نقله القاضي عياض - رحمه الله - عن جميع الروايات وفي معناه خفاء واختلاف قال القاضي: قال الضبعي: هذا وهم من الرواة. وصوابه تركت فتصحف. قال القاضي: فسألت عنه ابن سراج فقال ( أنزلت) في اللغة بمعنى ( تركت) صحيح ، وليس فيه تصحيف. قال القاضي: وظهر لي أنه صحيح بالمعنى المعروف في أنزلت فهو ضد رفعت لأنه قال: انطلقوا بي إلى زمزم ، ثم أنزلت أي ثم صرفت إلى موضعي الذي حملت منه. قال: ولم أزل أبحث عنه حتى وقعت على الجلاء فيه من رواية الحافظ أبي بكر البرقاني ، وأنه طرف حديث وتمامه ( ثم أنزلت على طست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا).
فضل الأنصار: بلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار مبلغًا عظيمًا حتى تمنى أن لو كان واحدًا منهم، وقد بوَّب البخاري في صحيحه: (باب: حب الأنصار من الإيمان). والأحاديث التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الأنصار مشيرًا إلى فضلهم ومنزلتهم كثيرة، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو أن الأنصار سلكوا واديًا -أو: شِعبًا - لسلكتُ في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرًأ من الأنصار » فقال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما ظلم بأبي وأمي! آووه ونصروه" (رواه البخاري). ما المراد برسول ربي في الحديث. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم حبهم علامة على الإيمان، وبغضهم أمارة على النفاق ، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار » (رواه البخاري). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علبيه وسلم: « الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله » (رواه البخاري). وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأيام أوصى بهم قائلًا: « أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي -بطانتي وخاصتي-، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم » (رواه البخاري).
[2] رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم 3/ 1361 (3509). [3] ينظر: فتح الباري 7/ 79، ورياض الصالحين ص171. [4] رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم 3/ 1360 (3508).
قال الواحدي: أما من شدده فمعناه [ ص: 359] المطهر ، وأما من خففه فقال أبو علي الفارسي: لا يخلو إما أن يكون مصدرا أو مكانا فإن كان مصدرا كان كقوله تعالى: إليه مرجعكم ونحوه من المصادر وإن كان مكانا فمعناه بيت المكان: الذي جعل فيه الطهارة ، أو بيت مكان الطهارة ، وتطهيره إخلاؤه من الأصنام وإبعاده منها. وقال الزجاج البيت المقدس المطهر وبيت المقدس أي المكان الذي يطهر فيه من الذنوب ويقال فيه أيضا إيلياء. والله أعلم. وأما ( الحلقة) فبإسكان اللام على اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى الجوهري وغيره فتح اللام أيضا. قال الجوهري: حكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء ( حلقة) بالفتح وجمعها حلق وحلقات. المراد برسول ربي في الحديث - صدى الحلول. وأما على لغة الإسكان فجمعها حلق وحلق بفتح الحاء وكسرها. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( الحلقة التي يربط به) فكذا هو في الأصول ( به) بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشيء قال صاحب التحرير: المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس. والله أعلم. وفي ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل: اخترت الفطرة) هذا اللفظ وقع مختصرا هنا والمراد أنه - صلى الله عليه وسلم - قيل له: اختر أي الإناءين شئت كما جاء مبينا بعد هذا في هذا الباب من رواية أبي هريرة ، فألهم - صلى الله عليه وسلم - اختيار اللبن.
في شهر شوال من السنة الثامنة من الهجرة كانت غزوة حُنَيْن آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي العرب، والتي دارت رحاها في حنين، وهو واد أجوف ذو شعاب ومضايق قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا من جهة عرفات، وهذه الغزوة فيها من الدروس التربوية الكثير، وقد أشار الله تعالى إليها في القرآن الكريم ، فقال تعالى: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [ التوبة:25-26]. والمتأمِّل في هذه الغزوة يرى حكمته وفقهه صلى الله عليه وسلم في معاملة النفوس، وعلاج ما بها من خلل أو خطأ، ومن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع الأنصار.
وكان هدف النبي صلى الله عليه وسلم من هذا العطاء المجزي للبعض -مع تأليفهم وتثبيتهم- تحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب الإسلام، بعد أن يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، ويتذوقون حلاوته، وقد حدث ذلك بالفعل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن كان الرجل ليُسلِم ما يريد إلا الدنيا، فما يُسلِم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" (رواه مسلم).