وإذا كانت فتنةُ المسيح الدجّال هي أعظمُ فتنةٍ تشهدها البشريّة من لدن آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن خوف النبي –صلى الله عليه وسلم- من خفاء الشرك على أمّته أكبر، ففي الحديث الذي رواه أحمد قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الشرك الخفيّ). إذن، فثمّة لونٌ من ألوان الشرك، جاءت تسميتُه في حديث –الشرك الخفي-، وتوصيفُه في نصّ آخر –أخفى من دبيب النملة-، وهذا الشرك لا يمكنُ أن يوصف بالظهور والوضوحِ والجلاء. ولعل المنزِع الذي جعلَ لهذا اللون من الشرك صفة الخفاء والاستتار أمران، الأوّل: تعلّقه بالقلب فلا يطّلع عليه إلا الله، وليس له مظاهرُ عباديّةٌ ظاهرة كالطواف حول القبورِ والنذر والذبح والاستغاثة وغيرها من العبادات التي تُصرفُ عادةً لغيرِ الله تعالى، والثاني: كثرة الاشتباهِ فيه، لخفاء مأخذِه، ودقّة أمرِه، وشدّة التباسِه. صور من الشرك الأكبر - ملتقى الخطباء. وقد اختلفت أقوال العلماء في بيان حقيقة الشرك الخفيّ وتعريفِه، فمنهم من قال: هو كلُّ ما نهى عنه الشرع من أعمال القلوب ومقاصدها، مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة للوقوع فيه. وهذا التعريفُ وإن كان يشملُ معظم الصور المذكورةِ في السنّة مما جاء وصفه بالشرك الخفي، إلا أنه قاصرٌ عن استيعابِ بعض صور الشرك الأكبر، كالنفاق.
وطلب العون من الميت والاستغاثة به عند الشدائد شِرْك أكبر. وهنا مسألة مهمة متعلقة بالاستغاثة بالأموات، ينبغي التنبيه عليها: فبعض الناس يستغيث بحيٍّ أو ميت؛ لقضاء حوائجه، فيأتيه ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص، أو ملك تصوَّر في صورته، والحقيقةُ: إنما هو شيطان أضَلَّه لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام، وتُكَلِّم المشركين. انتشرتْ صورة على (الإنترنت)، وبعض الناس يعلِّقونها في بيوتهم، ويدَّعون أنها صورة لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كله باطل، لا أساس له من الصحة، وتلك الصورة هي لقبْر جلال الدين الرومي في تركيا، فقبرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءَ وصفُه في حديث القاسم بن محمد بن أبي بكر - رضي الله عنهم - قال: دخَلتُ على عائشة، فقلت: يا أمَّه، اكشِفِي لي عن قبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيه، فكشَفَتْ لي عن ثلاثةِ قبورٍ، لا مشرِفَة ولا لاطِئَة، مَبطوحَة بِبَطحاءِ العَرصَةِ الحمراء؛ أخرجه أبو داود، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وإنَّ من صُورِ الشركِ الأكبر التي تقعُ عند القبور: ما يفعَله بعضٌ من الجُهَّال من التوجُّهِ للموتَى، يسألُونَهم تفريجَ الهُمُوم، وكَشفَ الغُمُوم، ويطلُبُون منهم قضاءَ الحاجات، ويرجُونَ منهم رَفعَ الكُرُبات، فذلك من أقبَح الشرك باللهِ، المُخالِفِ لدعوةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62]. فمن الضلالِ العظيم، والشركِ المُبين: أن يعكُفَ المخلوقُ عند قبرِ ميتٍ لا يملكُ لنفسِه نفعًا ولا ضرًّا، يسجُدُ له، أو يطوفُ بقبرِه، أو يذبَحُ له، أو يدعُوه ويرجُوه، فتاللهِ ذلكم هو الإفكُ العظيمُ، والشركُ الجَسِيم، ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) [الأحقاف: 5]، ويقولُ - سبحانه -: ( وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ) [يونس: 106]. عباد الله: من أعظمِ الخسران: أن يتَّخِذَ أحدٌ ملجَأً غير الله - جلَّ وعلا -، كلما وقعَ في ورطةٍ، أو حصَلَ له مصيبةٌ نادَى: يا فلانٌ!
قال الفضيل بن عياض: "والله ما يحل لك أن تؤذي كلبًا أو خنزيرًا بغير حقٍّ، فكيف تؤذي مسلمًا؟! ". المسحورُ مظلومٌ، وقد يُعوِّضه الله عن النِّعمة التي حُسِد علَيها بنعمةٍ أعظَمَ منها، والله يبتلِي من يحبُّ مِن عباده؛ رفعةً له وتكفيرًا لسيِّئاته؛ قال النبيُّ: ((من يُردِ الله به خيرًا يصِب منه))؛ رواه البخاريُّ. من صور الشركة. فلا تحزَن - أيُّها المسحور - على ما أصابك، فالله يبتلي عبدَه المؤمِن؛ ليقرِّبَه إليه، ولا تسخَط بسبَب ما حلَّ بك، ولا تجزَع مما كتَبَه الله عليك، فقد يَكون ذلك سببَ سعادَتك؛ قال سبحانه: ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ [البقرة: 216]. ودَعوة المظلوم مستجابَة؛ قال نبينا: ((ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شكَّ فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودَعوة المسافِر، ودعوةُ الوالِدِ على ولده))؛ رواه الترمذي، وإذا صَبرتَ واتَّقيتَ الله كانت لك العاقبةُ؛ قال - عزَّ وجلَّّ -: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]. وأكثِر من دعوة ذي النون: "لا إله إلا أنت سبحانَك إنِّي كنت من الظالمين"؛ يقول النبيُّ: ((لم يَدعُ بها مسلِم قطُّ إلاَّ استجابَ له))؛ رواه الترمذيُّ، قال ابن القيِّم: "وقد جُرِّب أنَّ مَن قالها سَبعَ مراتٍ كشَف الله ضرَّه".
فهذا سنة حثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليها، وأخبر أنها تُذَكِّر الآخرة. ما هو الشرك الخفي الذي حذرنا منه رسول الله؟ | مصراوى. أما الزيارات الشِّركيَّة، والتي يفعلها بعضُ الجَهَلة، الذين يظنون أن بعض أصحاب القبور يستطيعون أن يشفوا المرضى، أو يقضوا الحوائج، ويأمرون الناس بالذهاب إلى المقابر، قبر الولي الفلاني، أو السيد الفلاني، ويطلبون منهم المدد، وما إلى ذلك - فإن ذلك شِرْك عظيم. أيها المسلمون: الغلوُّ في قُبُور الأنبياء والصالحين، واتِّخاذها مساجد، وبناء القبب عليها، وإسراجها بالشموع والأضواء - ممَّا نهى عنه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وعدَّه مظهرًا من مظاهرِ الشِّرك؛ قال: « اللهم لا تجعل قبرِي وَثَنًا يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيَائِهم مساجد » أخرجه مالك في "الموطأ". وفي البخاري: أن عائشة وعبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قالا: "لما نزل برسول الله الموت طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال - وهو كذلك -: « لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد »، يحذر ما صنعوا. وقال - عليه الصلاة والسلام -: « إن من شرار الناس مَن تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد » (رواه أحمد).